صناعة ‏وهم ‏| ‏"جريدة ‏غزل" ‏


لَحْظة

جريدة غزل

الوصول صعب ولكن معًا نستطيع. .. جريدة غزل لدعم الكُتاب عن طريق نشر كتاباتهم بأنواعها لتصل إلى القُرَّاء بسهولة، لمؤسستها سها عبد النبي، تحت إشراف تطبيق وجريدة لَحْظة.


"صناعة وهم"

جائت طرقات المشفى عدوًا ودموعها تنهمر بلا توقف حتى بلغت تلك الغرفة التي أبلغتها موظفة الاستقبال عن رقمها، نظرت من خلف الزجاج فرأت والدها وهو طريح الفراش تحوطه أجهزة كثيرة، لمجرد رؤيته هكذا يكاد قلبها يصرخ مستغيثًا أن يعود إلى دفء حضن والدها، كانت هي المُخطئة والمُذنبة الوحيدة، ما كان عليها تركه لوحده والذهاب، لكن بِمَ يفيد الندم الآن وهو على فراش الموتى.
خرج الطبيب من الغرفة فلحقت به ميار قائلة: كيف حال أبي، طمئني أرجوك.
نظر لها وهو يقطب جبينه قائلًا: لا أعرف كيف أشرح لكِ لكن ألزمي الدعاء كثيرًا.
وكأن تلك الجملة بمثابة الزر الذي تفجرت معه عيناها بالدموع، ظلت تبكي وتبكي وترفع يدها متضرعة إلا أن قاطعها ارتفاع صوت الجهاز الخاص بضربات القلب مُعلنًا الصفر، تلقيت الصدمة بيدٍ مرتعشة، صرخت فيهم قائلة: إنه حي بالداخل على أحدكم إنقاذه! لكن لم يحرك أحدهم ساكنًا، ففي الحقيقة كان ميتًا.
بنفس الطابق وفي إحدى الغرف الموجودة بنهايته كان الموقف لا يختلف كثيرًا، أم تبكي ولدها الذي توفى اليوم وكأنه كهلًا وقد كان بالأمس شابًا يافعًا، نفس الطبيب لكن ملامحه كانت أكثر انزعاجًا وجبينه كان مُقطبًا أكثر من اللازم وهو يسألها للمرة الثالثة وكأنه لا يصدق: أمي هلا أخبرتني كم عمره؟
بالرغم من دموعها المتساقطة على خدها إلا أنها نظرت إليه بدهشة قائلة: لقد أخبرتك يا بني، عمره حوالي خمسةٌ وعشرون.
زاد حاجبيه التقاءًا وهو يقول مغمغمًا: عليّ استدعاء الطبيبة هناء، ثم تابع بكلمات حاولت السيدة المسكينة فهم مقصدها إلا أنها بدت حقًا غامضة: هذه ليست الحالة الأولى.
عام ٣٢٠٠
وضعت بعض الأوراق أمام مدير المشفى العامة وهي تقول: نفس الأعراض
نظر لها وأخذ يفكر قليلًا قائلًا: يبدو كطاعون، في خلال ثلاث ساعات فقط كانت جميع الأسّرة بالمشفى امتلأت.
قالت الطبيبة هناء شارحة: الوفيات تزداد مع كل دقائق تمر، شحوب في الوجه يتبعه اختناق شديد ثم يتوقف النبض.
مدير المشفى: هل تتراوح الوفيات بين عمر محدد نستطيع تأويل الأمر إليه.
هزّت رأسها نفيًا قائلة: الأعمار متفاوتة شباب وأطفال وحتى شيوخًا.
أطرق قليلًا مفكرًا بينما هي لم تقاطعه حتى رفع رأسه فجأة قائلًا: تابعي بنفسك الفحوصات واعلميني بأي جديد، لكِ كل الصلاحيات.
شدّت قامتها وقالت بكل ثقة: حسنٌ ما فعلت سيدي.
فقال أخيرًا: أريد تفسيرًا قبل أن يتفاقم الأمر ويصل للإعلام وتلوكه الألسنة.
تسارعت الأحداث بشدة، والضغط عمّ المشفى العام، الجميع يريدون تفسيرًا.
..........
وضعت رأسها بين يديها قائلة بتفكير شارد: ولكن كيف؟ 
لم يكتمل تساؤلها حتى وجدت الطبيب المساعد يدخل عليها قائلًا بلهفة لم يستطع إخفائها: معدل الإشارة تحرك.
نهضت من مكانها على الفور ورفعت سماعتها الطبية على إذنها قائلة وهي تجوب الممرات الفاصلة عن تلك الغرفة القابعة في مكان منعزل تمامًا: جهزوا كل الفحوصات اللازمة ثم شددت قائلة بحزم: لا أريد أي أخطاء.
........
قالت السكرتيرة بتوتر: سيدي، الطبية هناء بالخارج تقول أنها عرفت شيئًا جديدًا.
قال على الفور: أدخليها بسرعة.
دخلت بخطوات يملؤها الخوف من مستقبل مجهول قائلة بتوتر ظهر على محياها: تلقينا إشارة من الجهاز، ذاك المرض عمّ مصر كلها وليس العاصمة فقط، إلى الآن عدد الوفيات بلغ سبعة ملايين وهو في تزايد، لا نعرف له سببًا أو لِمَ ظهر فجأةً.
ضرب بسطح مكتبه قائلًا: أريد تفسيرًا حالًا لما يحدث.
عدّلت الطبيبة هناء من وضع نظارتها قائلة بلهجة عملية: G-7.
وكأنها قالت ذاك الرمز في المذياع ففي نفس الدقيقة تمامًا كانت الشاشات تنقل الخبر للناس كافة: عاجل موت ملايين مرضى الطاعون الجديد والذي لم يجد له الأطباء تفسيرًا حتى الآن G-7.
 كان الإعلام يرفع الكاميرات لوجه المدير وهو يقول: بذل أطباؤنا كل ما في وسعهم لاكتشاف نوعية ذاك المرض وإلى أين تمتد فصائله لكن يبدو إن لم يكن مؤكدًا أنه لا ينتمي لشيء بعينه بل هو طفرة جديدة G-7.
قال له إحدى الصحفاء: ما تفسير انتشاره كالبرق في العاصمة وكذا في كل المحافظات، هل صحيح أن محافظة كفر دهاق هي منبعه؟
فاجأة قبل إجابة السؤال صحفي آخر يقول: يتساءل الأهالي عن كيفية الوقاية منه هل هناك سبل نتبعها لكي لا نصاب؟
همّ بقول شيء إلا أن قاطعه صوت الصحفية وهي تقول: سيدي المدير 
انهمرت عليه الاسئلة التي تصبب عرقه معها لأنه ببساطة لا يعرف لها جواب.
.........
ابتسمت بسخرية قائلة أخيرًا: كل ذاك كان وهمًا يا فتى.
نظر لها متعجبًا وكأن الصدمة ألجمت لسانه فلم ينطق بحرف، بينما هي تابعت وكأنها تحادث نفسها: الحل كله يكمن في تلك الأنبوبة الفارغة التي وجدها رجال الشرطة قريبة من المبنى الرئيسي للمدينة، ميار علمت أن لها علاقة بحكم عملها في التحقيق، كانت تلك القنينة تحوي مادة غازية سامة بمجرد انتشارها في الجو تصاب بها جميع الأشخاص التي فصيلتهم O، ثم ضربت سطح المكتب قائلة معنفة نفسها: كيف لم ألحظ ذلك إلا الآن، أن كل المرضى الذين أصيبوا سواء رجال أو نساء أو حتى أطفال كان العامل المشترك الوحيد بينهم هو نوع الفصيلة.
نطق أخيرًا بعد صمت استمر لدقائق قائلًا بتوتر: إن كان تفسيرك صحيحًا فستكون تلك أكبر خدعة عاشتها مدينتنا.
نظرت له نظرة لم يستطع تفسيرها جيدًا إلا أنها شبكت أصابعها قائلة وكأنها تكرر جملته: إن كان تفسيري صحيحًا فستكون تلك أكبر خدعة عاشها العالم، أتبعت جملتها الأخيرة بضغطها على زر التلفاز فظهر ما جعله يشهق قائلًا: مستحيل.
..........
سيداتي سادتي مرحبًا بكم في نشرة جديدة، أعربت الأحداث الأخيرة الهلع في نفوس الجميع بلا استثناء وأعلن الأطباء صراحةً أن الأمر لم يعد تحت تصرفهم فيا ترى هل سيذهب العالم إلى الفناء بعد ذاك التطور الهائل وانتشار G-7 في كل أنحاء العالم؟ إليكم التفصيل.
سبعمائة ألف حالة وفاة في فرنسا، وخمسمائة وسبعة وعشرون ألف في أسبانيا، وعشرة الآف في ألمانيا هذا عن دول أوروبا أما القارة السوداء فيبلغ عدد الوفيات في جنوب أفريقيا مائتان وسبعون ألف، وفي كينيا وصل إلى أربعمائة ألف.
مستحيل مستحيل، نطق بها المساعد متابعًا: علينا إخبار السلطات بما اكتشفناه ورفع سماعة الهاتف وقبل أن يحصل على الرد من الطرف الآخر كانت هي قد جذبتها منه وأغلقته قائلة بحدة: ماذا كنت ستفعل؟
نظر لها ونفسه غير منظم، وصدره يعلو ويهبط، تنفسه غير متعادل بالمرة يقول: كل دقيقة تعادل أكثر من عشرون ضحية لذاك الوهم، علينا إسعاف الموضوع قبل اي تطورات، ثم أضاف بهلع: قد نكون نحن الضحية القادمة. 
جلست على المقعد قائلة بهدوء ينافي الموقف تمامًا: وهل تظن أن الحل يكمن في إخبار الجميع فيعرف العدو بمعرفتنا فنكون خسرنا الورقة الرابحة في الأمر.
حدق فيها لثوانٍ معدودة قبل أن يقول: الورقة الرابحة! هل نحن في لعبةٍ ما؟ ثم أضاف بغضب حمل كل ضيقه من هدوئها: هل سنترك الملايين يموتوا ونحن لا نحرك قيد أنملة.
قالت ميار: ألا يوجد ترياق!
نظرت لها الطبيبة هناء بجزع وهي تقول: نحن حتى الآن لا نعرف سوى أن ذاك المرض وهم، ثلث الناس يموتون به جراء استنشاقهم لما نشرته تلك القنينة وهُم من فصيلة O، والثلث الآخر وإن لم يكونوا من نفس الفصيلة فبمجرد وجودهم في نفس المكان كان ذلك أقرب للانتشار، والثلث الأخير لا نعرف له ماهية هل سيموتون من لوعتهم على أمواتهم أم سيسبقهم مالا نعلمه.
المساعد بهلع: ما غايتهم من كل ذلك؟
قالت بألم: إغراقنا في وهم المرض فلا يوجد صحيح يقود الغد، ذاك ما يريدونه ويبتكرون الوسائل لصناعته، لصناعة الوهم فلا ترى أعيننا حقيقة أفعالهم.
........
ضربة شديدة في مؤخرة رأسها ثم ما عادت تشعر بشيء، استيقظت لتجد نفسها في قبو معدني والقضبان تحيط بها، لمحت ظلًا لشخصيين فاقدان الوعي بجوارهما، يبدو أنها أول من أفاقت، الآن أتضح كل شيء، ابتسمت بمرارة وهي ترجع رأسها للخلف مستندة على حائط ذاك القبو الذي سُجِنت به، مع رجوعها أحست بتلك الحركة بجوارها لتجد ميار تحاول فتح عينيها بصعوبة، قالت الطبيبة هناء: لن يريدوا أبدًا كشف سر ذاك الوهم الذي صُنِع لنعيشه، وإلا لَمَا سُمِّي وهمًا ليعشه الناس كأنه الحقيقة
ذُهِلت ميار وهي تقول لها: أتعنين.
قاطعتها قائلة: نعم سيُدفن سر صناعته هنا معنا نحن الثلاثة.
جثت ميار على ركبتيها قائلة ودموعها لا تتوقف عن جريانها كالشلال: هذا ليس عدلًا، لم آخذ بعد حق والدي، تابعت بصراخ ارتجت له جدار المكان: هذا ليس عدلًا أن نكون نحن الجاني على أنفسنا.
وفجأة ودون سابق إنذار انبعث غاز من إحدى فتحات التهوية، تراجعت معها ميار كالمصعوقة قائلة: غير معقول!
نظرت إلى مساعد الطبيب وقد بدأ لونه يشحب بطريقه مُفزعة، فقالت بمرارة كادت تُميتها قبل حتى أن يفعل ذاك الغاز: لقد أذاقونا من نفس الكأس... الوهم.
........
كيف يكون المرض وهمًا! تلك هي الحقيقة، هناك أيادي تحركنا كالدُّمى في ساحة الحياة وتصنع لنا أوهامًا نعيشيها وننسى الغرض أصلًا من الحياة! "صناعة وهم" قصة تندرج تحتها قصص، الوهم ليس فقط في المرض، الوهم هو ذاك السبيل الذي نرى عقول الشباب الآن تسلكه، الوهم هو تلك الحرية المزيفة التي يختبئ خلفها من يريد التحرر من قيود الدين، الوهم هو ما يُخفى عن أعيننا خلف شاشات التلفاز، الوهم هو ما سوف تعيشه أنت الآن إذا استنشقت تلك الرائحة الطيبة التي أرسلوها إليك مُغلفة فوق قرار توقيع استلام ملكية فكرك.


لـِ ابتهال أشرف محمود.

إرسال تعليق

أضف تعليقًا مُشجعًا ..

أحدث أقدم

شاهِد أيضًا

إغلاق الإعلان